الأخبار
إذا كان فوز زُهران ممداني برئاسة بلدية مدينة نيويورك يمثّل لحظة تحوّل فارقة في السياسة الأميركية، فإن هزيمة دونالد ترامب وحزبه الجمهوري في أربع ولايات، انتخبت الثلاثاء، شكّلت جرس إنذار مبكراً للإدارة وبرنامجها وسياساتها الداخلية والخارجية، بعد أقلّ من عام على تبوّؤ الرئيس الحالي منصبه. والإنذار نفسه ينسحب على الحزب الديمقراطي، ويهدّد بتقسيمه، بعدما اختار رموزه، على بُعد عام واحد من انتخابات التجديد النصفي، الركون إلى الحياد، وتفضيل عدم دعم ممداني رسميّاً، على رغم حالة التخبط التي يعيشها هذا الحزب منذ الهزيمة المدوّية التي تلقّاها في انتخابات عام 2024، في ظلّ غياب خطط فاعلة أو خطاب موحّد حول كيفية مواجهته المدّ اليميني في الولايات المتحدة. بين هذين الحدَّين، جاء صعود زهران ممداني الذي نجح في مخاطبة الناس، وتبديد هواجسهم، والأهمّ إشعارهم بأنّ ثمّة في السياسة بعضاً من أملٍ يمكن التمسّك به. مع هذا، ظلّت الآمال، حتى آخر لحظة، تتأرجح على سؤال: ماذا لو؟
لكن، يبدو أن الموجة الحمراء التي اجتاحت أميركا، العام الماضي، بدأت بالانحسار سريعاً، حتى قبل أن يتسنّى لترامب الاحتفال بعامه الأول في ولايته الثانية. وتلك ليست مُفارقة، بقدْر ما هي نتاج جنون منفلت أصبح سِمة الإدارة الحالية. هكذا، يصبح فوز زهران ممداني أقرب إلى كونه ثورة: المسلم، الديمقراطي، الاشتراكي، ابن المهاجرين الذي غيّر وجه نيويورك المدينة. فاعتباراً من لحظة إعلان النتائج، تولّد مناخ سياسي جديد في الولايات المتحدة، عبّر عنه ممداني بقوله لترامب، وهو يلقي خطاب النصر: «أعلم أنّك تشاهدنا… ارفع الصوت عالياً»، ليفتتح بذلك ما بدا أنه نزال سياسي لن يقف عند حدود مدينة نيويورك، التي «ستبقى مدينة مهاجرين، مدينة بناها المهاجرون، يحرّكها المهاجرون، واعتباراً من الليلة مدينة يقودها مهاجر». لكنّ الرئيس الأميركي، اختار إلقاء اللوم في خسارة الجمهوريين، على الإغلاق الحكومي وغياب اسمه عن ورقة الاقتراع، ثم ما لبث أن شنّ سلسلة تصريحات حادّة، انتقد فيها أداء الديمقراطيين ونظام التصويت «الكارثي»، وسياسات الهجرة، وإنْ أقرّ بأن «ما حدث ليلة أمس كان فوزاً ديمقراطياً بامتياز، ولا أعتقد أنه كان جيّداً للجمهوريين».
استخدم ممداني هويته بغرض التعبئة، في مدينة يمثّل المهاجرون عصبها
على أن فوز ممداني قد يصلح لدراسة حالة حول الطبيعة المتغيّرة للسياسة العالمية؛ فحمْلته، التي أشرفت عليها «منظّمة الاشتراكيين الديمقراطيين في مدينة نيويورك»، ألهمت 100 ألف متطوّع ممَّن طرقوا ثلاثة ملايين باب في أحياء المدينة لإقناع الناخبين بالتصويت له (شكّل الشباب 60% من مجموع مَن صوّتوا له). ومن بين الدروس المُستفادة من حملته أيضاً، تسليط «العمدة الجديد» الضوء على الهموم الاقتصادية باعتبارها القوّة المُحرِّكة للتعبئة في السياسة الجماهيرية، وتركيزه الدؤوب على أزمة المعيشة، ودعوته، في ضوئها، إلى اتّباع سياسات من مثل تجميد الإيجارات لنحو مليونَيْ مواطن من ذوي الدخل المحدود، وتوفير خدمات نقل ورعاية أطفال مجّاناً، إلى جانب مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة في واحدة من أغلى مدن العالم. وفي مقابل تلك الوعود، ثمّة أخرى مُضادّة يتبنّاها ترامب، في سعيه إلى تعطيل ممداني والتضييق عليه.
وفي هذا الجانب، تطرح مجلة «نيوزويك» الأميركية، خمسة سيناريوات محتملة حول كيفية تعامل الرئيس مع فوز ممداني مستقبلاً، وهي: تشديد تطبيق قوانين الهجرة في مدينة نيويورك، كما فعل قَبلها في لوس أنجليس وشيكاغو. مقاضاة المدينة، من خلال اللجوء إلى الطعن في سياسات إدارة ممداني أمام المحاكم، خاصة تلك المتعلّقة بملفّ الهجرة. حجب التمويل الفدرالي، وهو ما هدّد به الرئيس فعلاً. زيادة الرقابة الفدرالية، عبر ربط الحصول على التمويل الفدرالي، بالامتثال لأولويات الإدارة في التعاون مع وكالة الهجرة. نشر «الحرس الوطني» للمساعدة في تنفيذ أجندة ترامب المتعلّقة بالجريمة والهجرة، في عدد من المدن التي يحكمها ديمقراطيون، والتي لن تكون نيويورك بمعزل عنها.
وباعتباره أول مسلم (وآسيوي) يقود بلدية نيويورك، استخدم ممداني هويته (مولود في أوغندا، من أصل هندي، مسلم) بغرض التعبئة، في مدينة يمثّل المهاجرون عصبها. وفي جانب آخر، يبدو فوز ممداني مُلهِماً لجيل الشباب من الأميركيين، كونه أصغر رئيس لبلدية نيويورك (34 عاماً) منذ قرابة قرن. ووفقاً لصحيفة «غارديان» البريطانية، «يشكّل ممداني تهديداً واضحاً للجمهوريين»، ذلك أن «انتخابه يُجسّد تحوّلاً جيليّاً وأيديولوجيّاً داخل الحزب الديمقراطي، ويجعله أول عمدة مسلم، ومن أصول جنوب آسيوية في تاريخ نيويورك، في لحظة أميركية تتأرجح بين تصاعد القومية البيضاء، والحاجة الملحّة إلى التغيير». فكما قال ممداني نفسه: «إذا كان في مستطاع أيّ جهة أن تُظهِر أمام بلد خانه دونالد ترامب كيف يمكن هزيمته، فإنها المدينة التي أوصلته إلى السلطة ابتداءً».
الديمقراطيون يكتسحون الانتخابات المحلية
في الوقت الذي كان فيه زهران ممداني يستحوذ على الحصة الكبرى من الأضواء، عقب فوزه بانتخابات عمدة نيويورك، كان الديمقراطيون يكتسحون الانتخابات «الأعلى مستوى»، في الولايات الأخرى على امتداد البلاد، موجّهين رسالة واضحة إلى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مفادها أن الشارع الأميركي يشهد تغيّراً واضحاً في المزاج الشعبي، قبل عام من الانتخابات النصفية. وعقب سنة من السياسات العدوانية تجاه المهاجرين، والحروب التجارية المكلفة التي انعكست سلباً على الأوضاع المعيشية للسكان، جنباً إلى جنب السياسات المالية والضريبية التي استفاد منها أصحاب الثروات والشركات الكبرى، تقدّم الديمقراطيون في 3 سباقات في أول انتخابات أميركية رئيسيّة منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
وفي فيرجينيا، التي تُعد عادة مدخلاً لقراءة نتائج الانتخابات النصفية، تقدّمت أبيغيل سبانبَرغر، المرشّحة الديمقراطية، بفارق نحو 15 نقطة في انتخابات حاكمية الولاية، فيما فاز الديمقراطيون بجميع المناصب على مستوى الولاية، بعدما كانت الأخيرة تحت الحكم الجمهوري. أما في نيوجيرسي، ففازت ميكي شيريل أيضاً بمنصب الحاكم، بفارق كبير عن المرشّح الجمهوري المُقرّب من ترامب، جاك تشياتاريلي. وعلى الرغم من أن نيوجيرسي لم تنتخب حاكماً من الحزب نفسه 3 مرات متتالية منذ أكثر من 6 عقود، إلا أن شيريل نجحت في كسر تلك القاعدة. بالتوازي، كان لافتاً، في كاليفورنيا، إقرار الديمقراطيين إجراءً انتخابياً يسمح بإعادة رسم الدوائر الانتخابية في الكونغرس، كخطوة مُضادّة لمحاولة ترامب زيادة عدد مقاعد الجمهوريين في مجلس النواب في الولايات المؤيّدة له.
وعقب صدور النتائج، لجأ ترامب إلى منصة «تروث سوشال»، مدّعياً بأنّ «الديمقراطيين فازوا فقط لأن اسمه لم يكن على ورقة الاقتراع هذا العام»، ملقياً باللوم أيضاً على الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة، والذي أصبح الأطول في التاريخ.

